1يعود الوجود المسيحي في العراق، حسب المصادر التاريخية، إلى فترات التبشير الأولى حين بدأ بالانتشار إلى جانب ديانات أقدم منها الزردشتية والمانوية بالإضافة إلى الوثنية التي كانت منتشرة ضمن الإمبراطورية الساسانية. تميزت المسيحية في العراق في اعتقادها وطقوسها عن نظيرتها في الضفة الأخرى غرباً والتي كانت تحكمها الدولة البيزنطية. هذا وقد انتشرت في العراق مذاهب مسيحية استبعدتها الكنيسة الغربية في المجامع المسكونية الأولى ومنها مجمع أفسس الأول ٤٣١ ومجمع خلقيدونية سنة ٤٥١. ففي مجمع أفسس اعتبرت تعاليم أسقف القسطنطينية نسطورس هرطقة، ما أدى إلى زيادة انتشارها في العراق وكانت طيسفون (المدائن) مركزاً للكرسي الرسولي لبطريركية كنيسة المشرق؛ وفي مجمع خلقيدونية تكرس الخلاف مع المونوفيزية التي تعتقد بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح والتي بدأت أيضاً بالتزايد شرق الإمبراطورية البيزنطية وعرفت باسم الكنيسة اليعقوبية.

2بقيت المسيحية بطقوسها وعمارتها مستمرة حتى في الفترة الإسلامية المبكرة تشهد عليها المصادر الأدبية ونتائج المسوحات والتنقيبات الأثرية بالإضافة إلى دراسة فن الزخرفة الجصية وأواني الفخار. ولم يقتصر انتشار المسيحية على جغرافية العراق الحالي، بل انتشرت لتشمل منطقة الخليج العربي جنوباً وآسيا الصغرى شرقاً؛ لكن العراق كان يلعب دوراً قيادياً نظراً لاحتضانه على الكرسي البطريركي.

3أظهرت التنقيبات الأثرية العمارةَ المسيحية في مناطق امتدت من شمال العراق في محافظة السليمانية مثل كنيسة بازيان مروراً بمدينة تكريت التي تضم الكنيسة الخضراء والتي كانت مركزاً أسقفياً، وصولاً إلى محافظة كربلاء التي تضم كنيسة الأُقيصر في قلب البادية الغربية في قضاء عين التمر، ومنها إلى مدينة النجف وفيها مدينة الحيرة عاصمة المناذرة بكنائسها وعمرانها والتي شهدت تنصر ملكها المنذر في القرن الرابع الميلادي. لعبت الحيرة عاصمة المناذرة دوراً هاماً في نشر المسيحية شرقاً، هذا وتخبرنا المصادر الأدبية والليتورجية عن تواجد قبور للجثالقة بالقرب من أديرة وكنائس الحيرة.

4لقد لعب رجال الدين المسيحي في العصر الإسلامي المبكر دوراً هاماً في نقل العلوم من اللغة السريانية إلى اللغة العربية وكانوا مقربين من البلاط العباسي في بغداد إلى حد أنه نُقل الكرسي البطريركي ليصبح في بغداد.

5أدى ازدياد نشاط البحث العلمي من أعمال مسح باستخدام طرائق حديثة وأعمال التنقيب الأثرية على يد بعثات وطنية عراقية أو بعثات أجنبية بالتعاون مع الهيئة العامة للآثار والتراث إلى الكشف عن المزيد من معالم هذه الديانة من كنائس وأديرة مشيدة من الحجر أو اللبن تزينها الزخارف الحجرية أو الجصية، والعثور على العديد من اللقى الطقسية كالصلبان والمباخر وغيرها. وأظهرت هذه الدراسات وجود تشابه واختلاف في الطرز المعمارية بين الكنائس الممتدة في شمال وغرب العراق عن تلك المنتشرة في وسطه وجنوبه.

6يقدم هذا المجلد من مجلة الدراسات الشرقية لمحة عامة عن الدراسات الحديثة عن المسيحية في العراق من خلال ثلاثة عشر مقالاً كتبها باحثون في علم الآثار والتاريخ والفن بالإنجليزية والفرنسية والعربية. هذا العمل في جزء منه هو نتيجة المائدة المستديرة التي نظمها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى وجامعة صلاح الدين يومي ٤ و٥ مايو ٢٠١٩ في أربيل. تهدف هذه الأبحاث جميعها إلى تسليط الضوء على جزء هام من تاريخ العراق وفيها إثبات أن وجود المسيحية المبكرة في العراق والممتد خلال العصر الإسلامي المبكر جزءٌ لا يتجزأ من الموروث الحضاري للعراق الذي تشهد عليه أوابده الشاخصة أو تلك المدفونة في كبد الأرض والتي تنتظر معاول المنقبين.